الجزء الثالث
الباب الخامس التاريخ
كان الإحساس التاريخى بأحوال الوطن و الممالك و الملوك ضعيفا عند أهل اليمن، فلم تتناول أكثر نقوشهم غير الأمور التشريعية و الدينية (1) . و لكن هذا الإحساس لا يمكن إنكاره على عرب الشمال فى الحجاز و نجد. فقد كان هؤلاء العرب شديدى العناية بأنسابهم، كثيرى الاعتزاز و الفخر بآثار أسلافهم، و أيام أجدادهم. فعرب الشمال هؤلاء، و إن لم يعرفوا تقويم التاريخ بمعناه الرفيع، قد احتفظوا بذكريات الماضى و أحداثه، كما احتفظ بها الإسرائيليون القدماء، و وفروا لهذه الذكريات و الأحداث مادة الحياة و البقاء عدة أجيال على الأقل.
بيد أن خيال الرواة و القصاص من قدماء العرب لم يكن يتقيد بقوانين التاريخ الصحيح، بل كان يتحدث عن مآثر الأسلاف و آثارهم بمثل الحرية و الاختيار الذى يتناول به العامة أساطيرهم، فلم يكن متقيدا إلا بقوانين الفن الشعبى، بغض النظر عن التزام الدقة و الأمانة التاريخيتين (2) .
و فى الوقت الذى بدأ فيه العرب أنفسهم يدخلون فى نطاق التاريخ، و ينشئون دولتهم الخاصة، أمكن أن يحيا عندهم الاهتمام بالتاريخ الصحيح.
و هكذا نجد الجاحظ يقول: «علم النسب و الخبر علم الملوك» (3)
و لقد بدأ العلماء العرب منذ أوائل الدولة العباسية يصنّفون كثيرا من الكتب فى أحداث و وقائع متفرقة، كالغزوات، و حرب الردة، و الفتوح، و الفتن، و حروب العرب، و نشأ من ذلك كله مذهب التحليل و التعليل و إرجاع الأمور
____________
(1) انظر: rhodokanakis , altsabaeischetextei , wien 7291,63 n. 4.
(2) انظر: w. caskel , aiyamal- , arab , IslamicaIII ,1-99.
(3) انظر المزهر للسيوطى (الأزهرية) 1: 357.