46
مسبق (1). و قد كنّا نقصد حتّى الآن في حديثنا عن الحكم: الأحكام الواقعيّة.
____________
(1) الظاهر أنّ هذا التعريف للأحكام الظاهريّة و الواقعيّة هو التعريف المشهور بين المحقّقين المتأخّرين، كما يبدو من التتبّع و الدقّة في موارد استعمالهم لهذين العنوانين، و لكن وقع التشويش في كلمات جملة منهم، حتّى ادّعى بعضهم وجود اصطلاحين للأحكام الظاهريّة، و اعتبر الحكم الثابت بالأمارات من الأحكام الواقعيّة بمقتضى أحد الاصطلاحين و من الأحكام الظاهريّة بمقتضى الاصطلاح الآخر (اصول الفقه 1: 228 ضمن بحث الإجزاء).
و الذي يقتضيه التعريف المذكور هنا أنّ الأمارة الحجّة شرعاً إذا دلّت على حكمٍ متعلّق بذات الشيء لا بوصفه مجهول الحكم مسبقاً، كالوجوب المتعلّق بفعل الصلاة، و الحرمة المتعلّقة بشرب الخمر، و نحو ذلك، كان مدلولها هذا- أي مؤدّى الأمارة- حكماً واقعيّاً، لأنّه لم يؤخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق، غاية الأمر أنّه حكم واقعي مظنون و ليس مقطوعاً به، و هذا لا ينافي كونه حكماً واقعيّاً على تقدير وجوده، لأنّه على تقدير وجوده متعلّق بذات فعل الصلاة مثلًا لا بوصفه مجهول الحكم، و هذا يعني أنّه لم يؤخذ في موضوعه شكٌّ في حكم شرعي مسبق.
و في نفس الوقت ستكون حجّية هذه الأمارة- أي الحكم بالبناء على صدقها تعبّداً عند الشكّ- حكماً ظاهريّاً، لأنّ هذه الحجّية حكمٌ شرعيّ اخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق، ضرورة أنّ الشارع إنّما حكم بحجّية هذه الأمارة على من يشكّ في صدقها، أمّا العالم بصدقها أو كذبها فلا معنى لجعل الحجيّة التعبّدية بشأنه، و من الواضح أنّ مرجع الشكّ في صدقها إلى الشكّ في ثبوت الحكم الواقعي الوارد في مؤدّاها، و هذا يعني أنّ حكم الشارع بحجيّة الأمارة الدالّة على وجوب الصلاة مثلًا مرجعه إلى الحكم بالبناء على ثبوت هذا الوجوب عند الشكّ في ثبوته واقعاً، فهو إذاً حكمٌ اخذ في موضوعه الشكّ في حكمٍ شرعي مسبق.
و الحاصل: إنّ الأمارة الدالّة على وجوب الصلاة مثلًا مؤدّاها حكمٌ واقعيٌّ مظنون، و حجّيتها حكمٌ ظاهري.
و قد يكون مؤدّى الأمارة حكماً ظاهريّاً أيضاً، كما إذا دلّت الأمارة على حكمٍ متعلّق لا بذات الشيء بما هو، بل بوصفه مجهول الحكم، كالأمارة الدالّة على البراءة عند الشكّ- مثل رواية (رُفع عن امّتي ما لا يعلمون)- فإنّ مؤدّى هذه الأمارة عبارة عن حكمٍ اخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعيّ مسبق، فهو حكمٌ ظاهريّ.
و كذلك الأمارة الدالّة على حجّية أمارة اخرى فإنّ حجّية الأمارة الاخرى التي هي مدلول الأمارة الاولى حكمٌ اخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق، فيكون مؤدّى الأمارة الاولى حكماً ظاهريّاً.
و هكذا يظهر أنّ مؤدّى الأمارة تارةً يكون حكماً واقعيّاً و اخرى حكماً ظاهريّاً، و أمّا حجّيتها فهي حكم ظاهري دائماً.
و قد يتوهّم أنّ حجّية الأمارة يكون جعلها الكلّي الصادر من الشارع حكماً واقعيّاً، و مجعولاتها الفعليّة الحاصلة في صغريات تلك الأمارة أحكاماً ظاهريّة، ففي مثل حجّية خبر الثقة يكون أصل الحجّية الصادرة من الشارع كقاعدة عامّة حكماً واقعيّاً، و الحجّيات الفعليّة التي تحصل لمثل الخبر الدالّ على وجوب الصلاة و الخبر الدالّ على حرمة العصير العنبي إلى غير ذلك أحكاماً ظاهريّةً. و كذلك أيضاً بالنسبة إلى الأحكام الظاهريّة الاخرى كأصالة البراءة مثلًا، فيكون أصل جعل البراءة كقاعدة عامّة للإنسان الشاكّ حكماً واقعيّاً، و مجعولاته الفعليّة الحاصلة عند تحقّق هذا الشكّ و ذاك الشكّ أحكاماً ظاهريّة.
و السبب في هذا التوهّم أنّ ما يتقوّم بتحقّق الشكّ في الخارج إنّما هو الوجود الفعلي للحكم الظاهري، أمّا وجوده الجعلي فهو غير متقوّم بتحقّق الشكّ في الخارج، ضرورة أنّ الجعل الكلّي لما يسمّى بالحكم الظاهري قد يكون صادراً من الشارع قبل تحقّق الشكّ المأخوذ فيه في الخارج، فبناءً على أنّ الحكم الظاهري ما اخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق، لا بدّ من القول بأنّ الحكم المقيّد بحال الشكّ في حكم شرعيّ مسبق ليس جعله الكلّي حكماً ظاهريّاً بل إنّ مجعوله بوجوده الفعلي حكم ظاهري.
و لكنّ هذا توهّم باطل، لأنّ ما ذكرناه من كون الحكم الظاهري هو الحكم المأخوذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعيّ مسبق، ليس المراد منه كونه متقوّماً بتحقّق هذا الشكّ في الخارج، بل المراد من ذلك كون هذا الشكّ مأخوذاً في موضوعه و لو على طريقة الموضوع المأخوذ في القضايا الحقيقيّة، بمعنى أن يكون الشكّ مقدّر الوجود في موضوع ذلك الحكم. فكما أنّ الأحكام الواقعيّة المقيّدة بقيود اخرى غير الشكّ- كالاستطاعة و نحوها- لها جعلٌ و لها مجعول، و جعلها قد يكون صادراً قبل تحقّق تلك القيود في الخارج، و مجعولها الفعلي يتقوّم بتحقّق تلك القيود، كذلك الأحكام الظاهريّة المقيّدة بالشكّ في حكم شرعيّ مسبق، فإنّ لها أيضاً جعلٌ و لها مجعول، و جعلها قد يكون صادراً قبل تحقّق ذلك الشكّ في الخارج، و مجعولها الفعلي متقوّم بتحقّق ذلك الشكّ في الخارج، و هذا لا يعني أنّ جعلها ليس حكماً ظاهريّاً، بل هي أحكام ظاهريّة بما فيها من جعل و مجعول